موقف اباضية غارداية من اتفاقية سنة 1853 (2)

 قبل ان نتحدث بالتفصيل عن اتفاقية استسلام اباضية غارداية للمستعمر الفرنسي سنة 1853، يجب أن نحدد بعض المفاهيم للإخوة القراء في النقاط التالية:

  • لا توجد قبيلة أو طائفة أو مجموعة بشرية تخلو تماما من الخيانة أو العمالة، وذلك أمر مفروغ منه. ولكن العبرة دوما بالغلبة والكثرة لا بالقلة المنتفعة.
  • ان توقيع معاهدة مع العدو قد تكون مقبولة ومشروعة بعدما تستنفد الجهود وتستفرغ الطاقات كما حدث مع الأمير عبد القادر الذي جاهد العدو قرابة العقدين من الزمان قبل ان يصل الى نقطة الاختلال التام للموازين، أو عندما يكون الهدف منه حفظ المصالح العامة للأمة بأجمعها كما قام به الداي حسين سنة 1830 ... ولكن عقد أي معاهدة مع العدو لن يجد له أي تبرير عندما يكون استسلاما على طبق من ذهب ومن دون أي مقاومة، وبهدف الحفاظ على مصالح جماعة معينة، لا مصالح الامة بأكملها.
  • لقد قام الكثير من اعيان القبائل الجزائرية شمالا وجنوبا بالرضوخ في فترات معينة للمستعمر الفرنسي تحت الضغط والتهديد، ولكن ذلك لم يمنع أبدا أبناء تلك القبائل من التمرد على تلك القيادات والاتفاقيات، فشاركوا في المقاومات الشعبية والانتفاضات المتتالية، وهو ما لم يكن عليه الحال مع القوم بعد اتفاقية 1853 ولا حتى قبلها، فقد رفضوا دعوة الأمير عبد القادر للانضمام له والانصياع لحكمه، قبل توقيع تلك المعاهدة بحجة استقلالية كيانهم، كما رفضوا دعوة الشريف بوشوشة سنة 1871 للانضمام لجيشه لنفس السبب.

3- تحججات يحاول اباضية غارداية طرحها لتبرير موقفهم السلبي من اتفاقية 1853:

ومواصلة منا في التوسع في موضوعنا حول اتفاقية استسلام اباضية غارداية سنة 1853، وما تعهدوا به في تلك الاتفاقية للعدو الفرنسي من عدم اشتراكهم في أي عمل عدائي ضده، أو حتى مساعدة من يقوم بالثورة ضده. وهو الموقف الذي لم يجد أمامه القوم في الوقت الراهن إلا اللعب بورقتين اثنتين من أجل التلبيس على العامة والتخفيف من وطأة ذلك الموقف السلبي في تاريخهم، وهاتين الورقتين هما:

  1. الادعاء بأن سبب اتخاذ العدو الفرنسي قرار إلحاق منطقة ميزاب في نوفمبر 1882 انما كان بسبب عدم إلتزام القوم بتعهداتهم للعدو الفرنسي، وبأنهم قد فتحوا ابوابهم للثوار و ....
  2. المس بالموقف الجهادي المعلوم لأبناء الشعانبة ومشاركتهم الفاعلة في جل المقاومات الشعبية، ومحاولة حشر جميع أبناء الشعانبة في موضوع فرق المهارى الصحراوية التي شارك فيها قلة منهم لظروف اقتصادية بحتة، بل وإقرار قادة العدو الفرنسي بعدم اخلاص أبناء الشعانبة لهم وخداعهم لهم، وهو ما سنؤكده ان شاء الله بالعديد من الوثائق والشهادات.

4- إلتزام اباضية غارداية بما تعهدوا به في اتفاقية الاستسلام لسنة 1853:

ولنبدأ الآن بالتطرق لدحض الادعاء الأول، عبر التأكيد بأن القوم قد التزموا بكل ما جاء في اتفاقية الاستسلام لسنة 1853 واغلقوا ابوابهم امام المجاهدين، وبأن سبب اتخاذ قرار إلحاق منطقة ميزاب سنة 1882 انما كان لأسباب أخرى. وهو ما أكده القوم بأنفسهم في العديد من المحطات:

1. قال عمر بن عيسى بن إبراهيم رئيس جمعية النواب الميزابيين لموريس فيوليت رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي في سنة 1930: 

"ومن جهة أخرى فان وفاءنا بمقتضى المعاهدة المبرمة بيننا وبين فرنسا سنة 1853 كمال الوفاء، وحيادنا التام لدى قلاقل سنة 1870 [يقصد به انتشار المقاومات الشعبية ضد المستعمر الفرنسي سنة 1870 كالمقراني بالشمال وبوشوشة بالجنوب] وموقفنا النزيه طيلة الحرب الكبرى [يقصد به حرب فرنسا ضد  ألمانيا] ..."

قبل أن يؤكد بأنه توجد وثائق رسمية تؤكد وفاء القوم التام لمعاهدتهم مع فرنسا. 

فأين هو ذلك الخرق لتلك المعاهدة من طرف القوم كما يدعون؟؟؟ 


2. كما أكد عمر بن عيسى رئيس جمعية النواب الميزابيين لرئيس الجمهورية الفرنسية سنة 1930 عدم خرق القوم لاتفاقية 1853 وبأنهم حافظوا عليها حتى سنة 1882 سنة دخول فرنسا لميزاب بدون مقاومة ومن دون اهراق قطرة دم واحدة، وبعدما قامت ببناء حاميتها العسكرية بغارداية توطدت العلاقة الموجودة ما بين ميزاب وفرنسا ..." فأين خرق القوم لبنود اتفاقية 1853 ودعمهم للثوار؟؟ 


3. أما قطب أئمة الاباضية الشيخ امحمد طفيش فرغم كونه من القلة التي عارضت ابرام اتفاقية سنة 1853، إلا أنه أكد للفرنسيين سنة 1882 -عندما دخلوا غارداية من دون أي مقاومة- إلتزامهم التام ببنود اتفاقية 1853 وعدم خرقهم لها بقوله: 

"انما ينتقض العقد الذي بيننا وبينكم لو أعنا جيشا عليكم أو أفسدنا أمرا من اموركم التي رتبها رؤساؤكم أو قطعنا الدراهم التي نعطيكموها، ونحن ما فعلنا ذلك" فهذا إقرار صريح من أكبر معارض لتلك الاتفاقية الخيانية يؤكد بأن القوم لم يخالفوها مطلقا. 

 

4. ثم يتحدث الشيخ طفيش عن حدث يخض أبناء الشعانبة ورجال المقاومة بقوله: 

"وكم من مال صالحوا به لكم من يخرج عنكم كالشعانبة حين ردوهم اليكم من وادي تغير، وكم من عدو لكم طلب منهم الاعانة عليكم وجاء ليقهرنا على ذلك فرده بنو ميزاب أي مراعاة للعقد الذي بيننا وبينكم". 

فالشيخ طفيش يعدد للعدو الفرنسي بعض الخدمات التي قدموها له بناء على اتفاقية الاستسلام تلك، ومن ذلك قيامهم بأمر من فرنسا بإعادة أبناء شعانبة متليلي المتمردين على المستعمر، والذين رفضوا ان يدفعوا الضرائب لفرنسا ونزحوا الى واد تغير، فقام القوم بدفع ما على أبناء الشعانبة من أموال واعادوهم الى متليلي بأمر من فرنسا لكي يبقوا تحت اعين المستعمر ومراقبته. كما تحدث عن ردهم للمقاومين الذين طالبوا المساعدة مراعاة منهم للعقد المبرم سنة 1853. فأين هو ذلك الخرق لاتفاقية 1853 كما يدعي القوم الآن؟؟؟


5. ان الاعتبار الذي على أساسه تم ابرام القوم لتلك الاتفاقية سنة 1853 حفاظا على مصالحهم الخاصة بهم، يوضحه ممثل النواب الميزابيين لرئيس الجمهورية الفرنسية عندما كان يبرر طلب جماعته بإعفاء أبناء القوم من التجنيد الإجباري على خلاف حالة بقية المسلمين الجزائريين بقوله: 

"ومن جهة أخرى فان المسلمين الجزائريين ليس لهم ادنى فائدة في مشاهدتنا نخدم الجندية، كما لا يجزعهم اعفاؤنا منها، وعلى فرض وجود ذلك، أمن الصواب أن يهضم حق شعب إرضاء لشعب آخر؟" 

 


 انظروا الى ذلك التفكير الانفصالي عندما يصبح القوم يمثلون شعبا، وبقية الشعب الجزائري شعب آخر ... انها نفس العقلية التي تطل برأسها علينا بين الحين والآخر ...

سنواصل حديثنا بإذن الله على الأسباب الحقيقية لإلحاق فرنسا غارداية سنة 1882، وعن دور أبناء الشعانبة المشهود في احداث المقاومة الشعبية والاعمال الراسخة التي ذكرها التاريخ لهم ...   


إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال