موقف اباضية غارداية من اتفاقية سنة 1853 (1)

قام بعض القوم بالحديث مؤخرا عن اتفاقية استسلام اباضية غارداية لفرنسا والموقعة يوم 29 أفريل 1853، ليحاولوا من خلالها التأكيد بأن توقيعهم على تلك الاتفاقية فيه دليل على انهم هم فقط من كانوا يسكنون قصور الناحية، وبأنه لو كان هناك وجود لأبناء المالكية معهم لتم ذكرهم في تلك الاتفاقية أو تم التفاوض معهم !!! واذا كان أبناء المالكية -والشعانبة على وجه الخصوص- من المعارضين لتلك الاتفاقية -كما يدعون- فاين هو موقفهم من ذلك؟
الجنرال بيليسييه
الجنرال بيليسييه

وللإجابة على هذه الادعاءات الباطلة، لا بأس أن نقوم بسرد مجموعة من الأدلة التاريخية الموثقة التي تؤكد الحقيقة ناصعة للجميع، وذلك في النقاط التالية:
1 – عدم صحة الادعاء بأن فرنسا هي من طلب التفاوض على الاستسلام:

ان الادعاء بأن فرنسا هي من قام بطلب التفاوض مع اباضية غارداية من أجل السيطرة عليها بعدما احتلت الاغواط، كلام لا أساس له من الصحة، والحقيقة أن اباضية غارداية وبالتحديد جماعة بريان هم من قاموا بمراسلة فرنسا مباشرة بعدما تم احتلال الاغواط يوم 4 ديسمبر 1852 من أجل اعلان خضوعهم لها وابداء الاستسلام التام لها. حيث قام اباضية بريان يوم 12 ديسمبر 1852 بإرسال طلب الأمان للجنرال بيليسيي جاء فيه التالي:

"الحمد لله وحده، من جماعة بريان كبير وصغير. نعلمكم بأنه في الماضي وفي المستقبل نحن خدامكم، واتخذ بحقنا ما تريد، لقد اضطهدنا احمد بن سالم [خليفة فرنسا على الاغواط] وعاملنا بشكل غير عادل، ونصب علينا رجلا لا يجب ان يكون. لقد صبرنا على ذلك حتى وصل الجرح للعظم، وهو ما جعلنا نفر، لأننا لم نجد رجلا مثلكم. عندما وجدنا هذا الرجل [يعني الشريف محمد بن عبد الله] فكرنا بأننا معه سنخيف العرب. وعندما قدمت أنت، فررنا من امامك، والفرار علامة الاحترام. ونحن نحترمكم كما نحترم اباءنا ان كنت تعتبرنا في الوقت الحالي كأبناء لك، نحن في طاعتك كما كنا سابقا. ارسل لنا اشعارا بالأمان، ان اهل بريان يقولون لك: "منذ اليوم الذي ثار فيه الارباع كنا نحثهم دوما على الاستسلام، لكن السلطان [محمد بن عبد الله] لم يتركهم احرارا ليقوموا بذلك، واليوم هم مصممون على الاستسلام، ان كانوا اولادك ارسل لهم اشعارا بالأمان، وان كنت لا تقبلهم فانت فرنسي، وأنت لا تعرف الخيانة، فأعلمهم بما هو مطلوب منهم، وحتى لو طردتهم فسيلجؤون بين يديك"

لقد كان رد الجنرال بيليسيي عليهم بعد يومين من ذلك، بتهديد اباضية غارداية بضرورة استسلام جميع القصور وبدون شروط، ثم تهديد أشد من الحاكم العام للجزائر الماريشال راندون يوم 24 جانفي 1853 فانصاع القوم فورا و أرسلوا مندوبين عنهم إلى الجزائر ليتم في الأخير توقيع اتفاقية استسلام اباضية غارداية في 29 افريل 1853.

2 - من كان مهندس ذلك الاستسلام وحرّض على الإسراع بتوقيعه؟

 ان مهندس تلك الاتفاقية باستسلام اباضية غارداية للفرنسيين في 29 افريل 1853، هو المدعو عدون بن باسعيد من قصر بن يسجن، شخصية معروفة عند الفرنسيين كيف لا وهو من قدم خدمات جليلة للمستعمر الفرنسي بمجرد أن وطئت اقدامه أرض الجزائر، ولنترك المجال للباحث الفرنسي العسكري "بول سولاييه" لكي يعرفنا على عدون بن باسعيد. حيث يقول عنه بعدما التقاه في قصر بن يسجن أثناء رحلته نحو عين صالح:

لقد مررت بالساحة [قصر بن يسجن] فوجدت عدون بن سعيد والذي تربطني به علاقة صداقة، انه بلا ريب الشخصية الاكثر تميزا بميزاب ... لقد اصبح القائد الحقيقي لميزاب بالنسبة لفرنسا، وممثل فرنسا بميزاب … لقد كان عدون بن سعيد بالجزائر يعمل عند أحد أقاربه عند دخلت فرنسا سنة 1830. ومنذ اليوم الاول ربط علاقة معنا، أصبح أمين الميزابيين بالبليدة، وإلتحق في سنة 1844 بالقوات الفرنسية، والتي تحت قيادة الجنرال ماري لونج قامت برحلات استكشافية للقصور [يقصد منطقة القصور بالاطلس الصحراوي[.

بعد ذلك، في سنة 1852، كان متواجدا معنا اثناء إحتلال الاغواط، وعندها علم بأننا قررنا نهائيا احتلال وتسيير هذه المدينة بأنفسنا، خشي على استقلال وطنه [ميزاب]، حيث عاد بسرعة الى ميزاب، وأعلم مواطنيه بأن حريتهم مهددة، لقد أقنعهم بأن أي مقاومة للفرنسيين لن تكون لها جدوى، وقال لهم:


"لا يوجد إلا حل وحيد للحفاظ على استقلالنا الداخلي، وعلى القوانين والعادات التي ورثناها من اسلافنا. إن فرنسا لا تعرف الصحراء بعد، انها تخشى من التوغل فيها، ولكن طال الزمن أو قصر ستجتازها، يجب أن تكون وضعيتنا واضحة قبل أن يصل ذلك اليوم الذي يقررون فيه اجتياز الصحراء، لا يمكننا أن نكون إلا خدما أو تابعين لهم. لقد قمنا سابقا بدفع ضرائب للأتراك عندما كانوا أسياد الجزائر، فلماذا لا نقوم بدفع ضريبة لفرنسا؟ اذا وافقت على ذلك ستمنحنا حمايتها في مدن التل أين تفرض سيطرتها، وبفضل قوتها لن نكون ملزمين بدفع حقوق المرور للأرباع ولبقية قبائل الرحل الذين نعبر عبر اراضيهم"

 بعدما أقنع عدون مواطنيه برأيه، وبعد اجتماع رسمي لشيوخ الدين والاعيان من المدن السبع تم الاتفاق على ارسال كل مدينة حصانا الى الجزائر (العرف ان يقدم الحصان لمن يتم الخضوع له) وأن يقدموا اقتراح معاهدة لفرنسا يتولى عدون التفاوض حولها، والتي وقعت بعد ذلك في سنة 1853.

ويمكننا استخلاص بعض العبر مما سبق سرده من طرف بول سولايي:
  • ان القوم هو من طالبوا بل ألحوا على فرنسا من أجل عقد اتفاقية الاستسلام خدمة لمصالحهم الخاصة، وليست فرنسا من كانت المطالبة به ابتداء.
  • لقد كان عدون بن باسعيد أحد عملاء المستعمر الفرنسي منذ أول يوم لاحتلال الجزائر، وقد شارك في الحملات العسكرية المبكرة في الجنوب الجزائري. وهو من كان المهندس لعقد تلك المعاهدة الاستسلامية.
  • لقد كان اهتمام القوم من خلال عقدهم لتلك المعاهدة هو المحافظة على عقائدهم الدينية ومصالحهم التجارية في منطقتهم التي يعتبرونها وطنهم الام، من دون اعارتهم اي اهتمام للموقف العام الذي كان يمر به ابناء الشعب الجزائري عامة، وبالخصوص أبناء الجنوب الذين كانوا يقودون مقاومة شعبية طاحنة.

ولن ينته بنا الحديث عن اتفاقية الاستسلام لسنة 1853 هنا، بل سنواصل في حلقات قادمة سرد المزيد من تفاصيلها ...

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال