موقف اباضية غارداية من اتفاقية سنة 1853 (3)

بعدما وضحنا في ما سبق كيف أن القوم قد قاموا بالإلتزام بما جاء في معاهدة سنة 1853 على لسان مشائخهم وممثليهم، سنتحدث اليوم على السبب الحقيقي وراء قيام فرنسا بإلحاق ناحية غارداية في نوفمبر 1882، وهل بالفعل لم يقم أبناء الشعانبة بمقاومة المحتل الفرنسي؟؟؟

الجنرال فرانسوا شارل دوباراي

5- ما السبب وراء اتخاذ المستعمر الفرنسي لقرار إلحاق ناحية غارداية في 1882:

إن السبب الحقيقي وراء قيام فرنسا باتخاذ قرار إلحاق ناحية غارداية بها، هو انتشار الفوضى وجرائم القتل بلا عقاب بين سكانها، بسبب الفتن الداخلية التي وقعت بين الصفين الإباضيين الشرقي والغربي في كل القصور. حيث يمكننا ذكر بعضها في النقاط التالية:

  1. قتل قائد الصف الغربي بالقرارة كاسي بن زرويل مع أخيه من طرف رجال من الصف الشرقي في مارس 1860.
  2. طرد إبراهيم بن بوهون وانصاره في 10 سبتمبر 1861 من طرف قائد الصف الشرقي يحي بن كرواية. 
  3. قيام إبراهيم بن بوهون في يوم 22 أفريل 1863 بالاستعانة بشعانبة متليلي من أجل العودة الى القرارة بالقوة، حيث استعاد منزله، قبل أن يُحضر لهجوم على الصف الشرقي، وهو ما كان عندما طُرد الصف الشرقي بأكمله من القرارة يوم 7 ماي وتم تصفية 73 شخصا منهم، على رأسهم قائدهم بن كرواية، مما اضطر القوات الفرنسية للتدخل من الاغواط. وسجن بن بوهون مدة عامين قبل ان يعود للقرارة كرئيس للجماعة.
  4. قتل إبراهيم بن بوهون يوم 4 أفريل 1874 بسوق القرارة... 

وتتالت أحداث القتل والانتقام في مختلف القصور حتى جاءت اللحظة الفارقة حيث:
  1. تمت عملية قتل 13 شخصا بسوق بن يسجن وجرح 60 آخرين في فيفري 1880. 
  2. اغتيال الحاج صالح بن كاسي شيخ مسجد غارداية يوم 31 ماي 1881. 
  3. قتل رئيس جماعة بريان إبراهيم بن جريبة في أكتوبر 1881 بساحة سوق بريان. 
  4. قيام انصار الشيخ صالح بن كاسي في أفريل 1882 بالانتقام من قتلته، فنشبت فتنة بين أولاد عمي عيسى واولاد باسليمان انتهت بتسعة قتلى وعشرات الجرحى ... 

هنا قام بعض كبار الاباضية بمدينة الجزائر بكتابة طلبات متكررة من أجل تدخل القوات الفرنسية لوضع حد لهذه الفوضى اللامنتهية بين الصفين الإباضيين، وذلك عبر إلحاقها لناحية غارداية.

وهو ما استقبلته القيادة العسكرية الفرنسية بكل سرور، خاصة وأنها كانت تريد تحقيق هدف آخر عبر ذلك الإلحاق، وهو وضع أبناء الشعانبة بمتليلي تحت مراقبتها الحثيثة بعدما اعلنوا انضمامهم  لثورة الشيخ بوعمامة في سنة 1881، وأصبحوا بذلك يهددون مصالح فرنسا بالمنطقة، وهو ما يؤكده الجنرال نيوكس بقوله :

"عدد كبير من الميزابيين ممن يعيشون معنا بمدن التل، والذين علموا المزايا التي سيجنونها من إلحاقنا لهم، أعلنوا لنا عن رغبتهم بذلك. ومن جهة أخرى فقد فكرنا بأنه من المناسب ان تكون لنا نقطة ارتكاز بالجنوب لمراقبة الشعانبة اتباع دينيون لأولاد سيد الشيخ [حيث أن أغلبهم كان يتبع الطريقة الشيخية آنذاك] والذين كانوا غالبا في حالة عداء لنا، والذين تجب معاقبتهم عبر هدم قصرهم بمتليلي، ويمكننا أن نضيف كارثة مهمة فلاترز، والتي مست بهيبتنا [وهي العملية التي اشترك أبناء الشعانبة مع إخوانهم الطوارق في القيام بها] والتي أردنا معالجة نتائجها السلبية بالاهتمام أكثر بخطواتنا بالجنوب."

ان هذه الملاحظة الأخيرة التي ذكرها الجنرال نيوكس كسبب للتعجيل باتخاذ قرار إلحاق غارداية، وهي ضرورة مراقبة شعانبة متليلي المتمردين ضد فرنسا في سنة 1882م والذين تجب معاقبتهم عبر هدم قصرهم، هي باكورة ردنا على القوم الذين يحاولون عبثا تزوير تاريخ المساهمة الكبيرة لأبناء الشعانبة في أحداث المقاومة الشعبية بالجنوب الجزائري، وسنذكر بإذن الله الكثير من أعمالهم الجهادية في مواضيع أخرى بحول الله تعالى.

6- النص الكامل لاتفاقية استسلام اباضية غارداية لفرنسا في سنة 1853:

ولا بأس ونحن في هذه النقطة بالذات، أي ظروف اتخاذ فرنسا لقرار إلحاقها ناحية غارداية تحت سلطتها، أن نقوم بنشر نسخة من اتفاقية 1853 وما حوته من شروط، وعن الأشخاص الذين قاموا بتوقيعها، وهو ما نوضحه في التالي:

لقد تم عقد اجتماع مجلس اباضية وادي ميزاب بمسجد الشيخ سعيد، وتم فيه الاتفاق على ايفاد جماعة من أعيان اباضية القرى السبع الى مدينة الاغواط يوم 22 أفريل 1853 لإبرام اتفاقية الاستسلام، ويتكون ذلك الوفد من: المدعو بابوهون من بريان، وباعيسى بن بوهون وداود بن باحمد من غارداية، وبنوح بن الحاج أحمد من مليكة، وبكير بن علي من بونورة، ومحمد بن الحاج زرقون وعمر بن داود من بن يسجن، وبكير بن سليمان من العطف وبكير بن كاسي وعيسى ولد الزيت من القرارة.

حيث التق ذلك الوفد بالكومندان دوباراي باسم الماريشال راندون الحاكم العام للجزائر، وهذا نص من تقرير الكومندان دوباري عن ذلك:

 "من الحاكم الكبير لبلاد الاغواط سعادة السيد الكومندان دبراي الى جماعة بني ميزاب كبير وصغير كافة، أهل بريان وغرداية وبن يسقن وبونورة والقرارة ومليكة والعطف السلام عليكم الاف والرحمة والبركة أضعافا، أما بعد، اعلموا أن الميعاد متاعكم من بريان بابوهون ومن غرداية باعيسى بن بوهون وداود بن باحمد، ومن مليكة بنوح بن الحاج أحمد، ومن بونورة بكير بن علي، ومن بن يسقن زرقون محمد بن الحاج وعمر بن داود، ومن العطف بكير بن سليمان، ومن القرارة بكير بن كاسي وعيسى ولد الزيت وصلونا في بلاد الاغواط بخير وعلمنا على وأنكم اجتمعتم واتفقتم على ان تطيعوا الدولة الفرانسوية وتحملوا ما اشترطه عليكم سيدنا المارشال والي عمالة الجزائر وتراهم دفعوا لنا الخيل متاع القادة وقبلناهم منهم وفرحنا كثيرا بوفاقكم على ذلك وهو عين افادتكم وبه يكون صلاحكم وسدادكم وقابلت وفادتكم المذكورين أعلاه بإحسان وخطبتهم بأطيب كلام وذلك لما ان ظهر لي ذكات عقولهم وانهم بدل منكم وما فعلوه قد فعلتموه وكررنا عليهم الشروط التي هي للمريشال وقبلوه ذلك وهم قادمين يوم السبت لأجل ان يدفعوا الخيل بأنفسهم لسعادة السيد القفارنور، واليوم نعيد لكم الشروط التي جعلها عليكم سيدنا المرشال لأجل أن يذهب الوهم والغلط، وهذا أمر أبرمناه ولا ينحل، ومن نقض العهد فسطوتنا تدركه. وتلك الشروط: اللازمة  لكل سنة، وهي التي جعلها سعادة القفارنور خمسة وأربعين ألف فرنك، ولكن أنتم ناس فقراء ووقع عندكم الشر وسنطلب من جُوده وحنانته أن يحط عليكم شيء من ذلك. وكونوا خدّاما طائعين ونحن نكون لكم حفظا وأمانا في جملة رعيتنا في السفر والمقام. ولا يكون جمرك على سلعتكم. وأيضا بأن لا يدخل بلادكم ولا أسواقكم العرب المنافقين [يعني المجاهدين] كما هي عادة الخدّام الطائعين وتجروا بالسبب يعني البيع والشراء في أنواع المتاع وبذلك تربحون وهذا معنا. أما ان شئتم تتسببوا في سلعة تونس او سلعة الغرب يعني بلاد مولاي عبد الرحمان لكم تسريح ذلك ولكن بشرط تدفعوا الجمرك عليها كما هي عادة الفرنسيين في السلعة البرانية. ونحن لا ندخلوا في اموركم الداخلة عندكم، في بعضكم بعضا، وتراكم على منوالكم السابق بينكم تحكموا في بعضكم بعضا كما يظهر لكم. واللزمة التي تدفعوها للبايلك كل سنة تجمعوها بأنفسكم وتفرضوها كما شئتم  و لا يأتيكم مخزن ولا مخازنية من عندنا، ولكن كل عام تدفعوا في اليوم الذي نأمركم به في الأغواط. والحاصل لا ندخل في شيء من أموركم إلا في الشيء الذي ينافي العافية والذي ينافي حق الفرنسيين والسلام بأمر سعادة السيد الكمندان دبراي الحاكم الكبير ببلاد الاغواط وعمالته لتاريخ 22 ابريل 1853"  

 وبعدما علم ذلك الوفد بالشروط المفروضة عليهم من الحاكم العام، انتقلوا الى الجزائر من أجل توقيعها، محاولين أثناء ذلك مراجعة بعض بنودها فأجابهم الماريشال راندون بالتالي:


"لقد التقيت وفدكم الذي قدم لي بالجزائر، ويبدوا انكم لم تفهموا المطلوب منكم، انه ليس اتفاق خاص بالتجارة بيننا وبينكم، ولكنه استسلامكم الواضح لفرنسا، وبعيدا عن هذا الأمر لن يكون بيننا أي ترتيبات. كل مواردكم تحت أعيننا، ولن تدفع أي مدينة من مدنكم إلا ما تستطيع دفعه لنا. وإذا فعلتم ذلك ستعدون من جملة خدّامنا وستشملكم حمايتنا"

إن حاصل هذه الاتفاقية أن يستسلم إباضيو منطقة ميزاب للسلطة الفرنسية بدون أي مقاومة، وأن يدفعوا لها فروض الطاعة "45 ألف فرنك سنويا"، وأن لا يسمحوا للمجاهدين والثوار بالدخول إلى قصورهم، ولا أن يتزودوا من أسواقهم. مقابل أن تحمي الدولة الفرنسية قوافلهم التجارية في الحل والسفر، وأن تترك لهم حرية الاعتقاد، وأن لا تتدخل في أمورهم الداخلية. 

وهي الشروط التي سهلت للمستعمر الفرنسي أن يُوجه كل قواته لمجابهة ثورة الشريف محمد بن عبد الله بالناحية آنذاك. وهو ما أكده المؤرخ شارل أمات بقوله: 

"إن هذه الشروط التي قبلت بها الجماعة الاباضية سهلت سياستنا الاستعمارية في وقت كنا في أمس الحاجة إلى ترسيخ أقدامنا الاستعمارية بالناحية"*. 

Charles AMAT – Le Mzab et les M’zabites – PARIS – CHALLAMEL ET Cie, EDITEURS 1888 – P: 21 

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال